كل الدول تواجه تحدي المرحلة ، و لكل الدول قاعدة بيانات و معطيات تصغ على أساسها التقدير ، و انطلاقا من التقدير تبدع التدبير .و في ما يخصنا فلقد اقترنت بداية عهدة الرئيس تبون بتحدي مركب ، فإضافة لتراجع أسعار النفط جاءت جائحة كورونا ، و كل ذلك شكل تحديا و امتحانا لحكومة السيد جراد التي ركز برنامجها على ما يتصل بالدخول في طور اقتصادي جديد .
كان وضع ما بعد كورونا ضمن نقاط اجتماع الرئيس مع المجلس الأعلى للأمن . و ضمن الترتيبات المتعلقة بذلك الإجراءات الخاصة منها حسب ما ورد في الإعلان الرسمي إعادة إدراج نسبة التخفيض بـ 50 بالمائة على الضريبة على الدخل الإجمالي و على الضريبة على الربح لصالح الدخل المحقق في المناطق الجنوبية اعتبارا من 1 جوان و الإعفاء الكلي من الضريبة على الدخل الإجمالي الذي لا يتجاوز30 ألف دج شهريا و مراجعة عتبة الراتب الوطني الأدنى المضمون من 18.000 دج إلى 20.000 دج بداية من 1 جوان. و إلغـاء قاعـدة توزيـع رأس المال 49/51 بالمائة باسـتثناء أنشـطة شـراء و بيـع المنتجـات و تلـك التي تكتسي طابعا استراتيجيا و إلغـــاء حق الشفعة لدى التنازل عن الأسهم أو الحصص الاجتماعية المنجزة من طرف أجانب أو لصالحهم و الذي كرسه قانون ترقية الاستثمار لسنة 2016 و قانون المالية التكميلي ل 2010 كما تقرر إلغاء المادة 16 من قانون المالية التكميلي ل2016 المتضـمنة إلزاميـة تمويـل الاسـتثمارات الأجنبية باللجوء إلى التمويلات المحلية و الإعفاء من الحقوق الجمركية و الرسم على القيمة المضافة لمدة سنتين قابلة للتجديد للمكونــات و المـواد الأولية المسـتوردة أو المقتنـاة محليا من قبل المقاولين المناولين مع إدخال جملة من التحفيزات لفائدة المؤسسات الناشئة.
كل ذلك مرتبط بواقع متحرك و بتحولات تطيح بكل أوهام التيقن و الجزم فعلى صعيد الإشكالات والكُلف الاقتصادية يقول رائد دحبور والتحديات التي أفرزها هذا الواقع المُستجد بفعل الفيروس المُستجد، وكيف يمكن حسم النتائج؛ فليس ثمة أحدٌ يدَّعي أنه يملك اليقين حيال ذلك أيضاً. لكن هذا لا يمنع من محاولة إجراء جرد حساب، أو مراجعة نقدية لجملة من الأوهام التي ساقتها اقتصادات الرخاء واقتصادات التخلف على حد سواء لتبرير منطقها المُعوج في قدرتها على توقع الأزمات فضلاً عن قدرتها على معالجة آثارها.
فقبل الكساد الكبير في 1929 كانت نظريات الاقتصاد الكلاسيكي وفق منهج التحليل الجزئي للناتج القومي الإجمالي تعتبر أن توازن القطاعات الجزئية الصغيرة للناتج المحلي يؤدي إلى توازن الناتج القومي الإجمالي، وقد ثبت خطأ ذلك فيما بعد؛ فجاء تصميم نموذج التدفق الدائري للإنتاج والدخل، وقد شرح ذلك النموذج المُبسَّط مبادئ التحليل الكلي للناتج القومي الإجمالي، واعتمد على أن دورة الاقتصاد الكُلي تفترض وجود قطاعين رئيسيين تبادليين يحددان آلية النشاط الاقتصادي، وهما: القطاع العائلي من جهة وقطاع المنتجين من جهة أخرى، وافترض أنهما يتبادلان الموارد وعناصر الإنتاج والسلع بواسطة احتساب الريع على الأرض والفائدة على رأس المال والأرباح على عمليات الإنتاج في صيغها النهائية، وذلك عبر تبادل النقود أو ما يوفره النظام النقدي والمصرفي؛ وقد شكَّل ذلك نموذجاً بسيطاً يُستعانُ به لتوضيح الأسس التي تقوم عليها آليات التحليل عند دراسة الاقتصاد الكُلي. وبناءً على ذلك تم التمييز في علم الاقتصاد بين نوعين من أنواع النشاط الاقتصادي لدى التحليل، وهما: الاقتصاد الجزئي الذي يُعنى بدراسة نشاط الوحدات الصغيرة. والاقتصاد الكلي الذي يُعنى بدراسة مجمل النشاط الاقتصادي في الدولة.
وبذلك جرى التمييز بين الناتج المحلي الإجمالي والناتج القومي الإجمالي وعلاقته بمختلف العناصر بما في ذلك الاقتصادات الخارجية وبكفاءة النظام الضريبي والنظام الجمركي – مع عدم إغفال أهمية جود نظام من الحوافز للقطاعات الاقتصادية المختلفة داخل الدولة، ينبغي هنا التذكير أيضاً أن نموذج التدفق الدائري للإنتاج والدخل افترض استثناء التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي؛ وهذا جعل من ذلك النموذج مدخلاً لممارسة النشاط الاقتصادي دون ضوابط حكومية صارمة وترك الأمر لما يمكن الاصطلاح عليه بميكانيكية الثمن.
وهو ما يقوم عليه الاقتصاد الرأسمالي في الأساس، حيث يقوم على حرية السوق وآلية السعر، إذ يدفع قانون العرض والطلب نحو الوصول إلى تحقق توازن السوق دائماً، وهو ما يُعرف بقانون توازن السوق؛ بما يشمل ديناميكية العلاقة بين السلع الاقتصادية الوسيطة والبديلة والمُكَمِّلة؛ وقد دفعت هذه النظريات الاقتصادية النشاط الاقتصادي المحلي والعالمي مع الوقت نحو مزيد من الانفتاح، على قاعدة التنافس الحر، لكن ذلك لم ينف أهمية وطغيان أفضليات تمييزية لصالح الاقتصادات القوية على حساب الاقتصادات الضعيفة أو النامية، مدعوماً ذلك في الغالب بما يوفره نظام الهيمنة ومقتضيات تبعية اقتصادات التخلف، وإن لزم الأمر استخدام منطق العضلات العسكرية في تكريس منطق الهيمنة من قبل الأطراف الأكثر قوة تجاه الأطراف الضعيفة.
وقد أفرز واقع اقتصادات التخلف وعدم قدرتها على المنافسة في ظل تحديات تنموية تفوق طاقاتها الذاتية حاجةً دائمة للاقتراض والخضوع لشروط المُقرضين، وقد مثل ذلك الأساس والإطار اللذان أتاحا الدور الذي اضطلع به البنك الدولي وصندوق النقد الدولي – على سبيل المثال – لجهة فرض شروطهما للإقراض، والتي أتت في الغالب تحت عناوين إعادة هيكلة الاقتصادات المحلية للدول المدينة، وخصخصة قطاعات الإنتاج القومي للدول بما في ذلك خصخصة قطاعات الخدمات وبما تضمَّنَ من رفع غطاء الدعم الحكومي للسلع والخدمات الأساسية المقدمة للمواطنين، وعدم التدخل الحكومي في طرائق ومنهج توفير فرص العمل والتوظيف في القطاعات الخاصة الاحتكارية إجمالاً؛ وهو ما أسهم في تقليص فرص العمل وتقليص مساحة الطبقة الوسطى وزيادة مستويات الفاقة وفي ذات الوقت أتاح النظام المصرفي الذي تقترحه وتفرضه مؤسسات الإقراض الدولية وبرضوخ البنوك المركزية المحلية نمطاً غير متوازن من الإنفاق لدى قطاعات عريضة من ذوي الدخل المحدود، بما جعلها تعيش في الغالب خارج إمكاناتها الحقيقية، أمام تنامي الرغبة الاستهلاكية حيال السلع الكمالية”.
محمد بن زيان