من أهم دروس محنة الجائحة الانتباه إلى محورية المنظومة الصحية في التوجهات الإستراتيجية ، و في اجتماع مجلس الوزراء قال الرئيس حسب بيان الاجتماع :”إن الأزمة تلد الهمة، ويجب تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لمراجعة المنظومة الصحية من الأساس، وفي أدق تفاصيلها لمواجهة الزيادة السكانية التي تقدر بمليون نسمة سنويا، وبناء منظومة صحية عصرية تريح المواطن وتضمن له العلاج اللائق، ودعا إلى تحرير المبادرات وإنتاج العتاد الطبي محليا، ليس بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي فقط بل من أجل التصدير أيضا، وأعلن أن الدولة مستعدة لتقديم تحفيزات مالية لذلك “.
و أشار إلى “ضرورة تشديد المراقبة على نوعية الأدوية والمواد الغذائية المستوردة من خلال زيادة فتح مخابر بالعدد الكافي في كل منافذ البلاد ” ، كما قال :” أن المؤسسات الناشئة مطالبة في الوقت الراهن بـ “الاهتمام أكثر لتلبية حاجيات المستشفيات“.
منذ بداية تمدد الفيروس ، انتبهنا إلى افتقادنا للمخابر التي تغطي التراب الوطني و تتيح فعالية التحاليل و سرعتها ، و بدأ العمل على فتح فروع في مختلف المناطق لكي تبقى رهينة معهد باستور في العاصمة .
لعل أهم درس نستخلصه من اجتياح جائحة كورونا ، هو الجاهزية الدائمة لمواجهة أي تمدد فيروسي ، سواء كان طبيعي أو من صناعة معامل و مخابر . و التدابير متعددة ، من بينها الرصد المستمر و عالميا أجهزة الاستخبارات تدرج في أعمالها هذا الجانب
و هذا ما أشار إليه آلان جوييه ـ و هو ممن تولوا المسؤولية في الاستخبارات الفرنسية ـ ، إذ ذكر في تصريح منذ مدة صار موضع استحضار ، و هو حوار مع برنامج“تينك فييو” ـ و هو برنامج يبث على شبكة الانترنيت ـ ، ذكر فيه غياب الرؤية الدقيقة و العميقة للأحداث عند السياسي و الصحافي و ذلك بسبب ارتهانه لما في وكالات الأنباء، بينما أجهزة الاستخبارات رؤيتها للعالم مغايرة و هو ما يمنحها قدرة الاستشراف و التكهن . و هناك بطبيعة الحال بعض الوسائل الإعلامية التي تمتلك رؤية عميقة و دقيقة .
الفيروسات و التحولات :
لقد عايشت المجتمعات الوضعيات الصعبة وواجهت الأوبئة و الكوارث الطبيعية و البشرية ، منذ بداية التاريخ ، و بلدنا ليست استثناء ففي فترات مختلفة واجهت أوبئة و كوارث ، بعضها مسجل في النصوص ككتاب حمدان خوجة في بدايات القرن التاسع عشر عن الوباء و كالمشاهد التي صورها محمد ديب ببراعة عن الوباء في ثلاثيته عن الفترة التي زامنت الحرب العالمية الثانية .
و في كل فترة تظهر اوبئة و فيروسات مرتبطة بطبيعة العصر ، و مع تعقيدات التطور و الاخلال بقوانين الكون و الطبيعة تكاثرت التهديدات المصيرية و تفاقم الوضع مع توجه البحث العلمي وجهة تدمير من أجل حسابات متعلقة بالتوسع و الهيمنة ، فظهرت الفيروسات المصنعة مخبريا ، و صار ضمن ما يعرف بأسلحة الدمار الشامل إلى جانب السلاح النووي الأسلحة البيولوجية و الكيماوية ، و هي ربما أكثر خطرا من السلاح النووي .
و لهذا يكتسي ما يتصل بالصحة أهمية أمنية ، تستلزم دوما الاعتبار و تكييف السياسة الصحية مع المعطيات الديمغرافية و المناخية و الاقتصادية ..و تنظيم شبكة المنشآت و المخابر مع مقتضيات و حيثيات الوضع في كل جهة .
يقول د. أكمل عبد الحكيم كاتب متخصص في الشؤون العلمية والطبية :
“يختلف الأمن البيولوجي عن الأمن الصحي في كونه معنياً بالتدابير والإجراءات الهادفة إلى تجنب خطر انتقال الأمراض المعدية، سواء للإنسان أو للمحاصيل أو للحيوانات، سواء من جراثيم طبيعية، أو من تلك التي تم تعديلها وراثياً. ومنذ عقد التسعينات، وكنتيجة للمخاوف من الإرهاب البيولوجي، اشتمل مجال الأمن البيولوجي على الإجراءات والتدابير التي تمنع سرقة المواد البيولوجية من معامل الأبحاث.
ومؤخراً تناولت وسائل الإعلام، وخصوصاً الأميركية الموالية لدونالد ترامب، نظرية تطرح مزاعم مفادها أن فيروس الكورونا الحالي لم ينتقل إلى البشر من حيوان بري في إحدى أسواق مدينة ووهان الصينية، وإنما خرج من معمل متخصص في أبحاث ودراسات الفيروسات.
هذا السيناريو محتمل طبعاً، ولكنه ليس مؤكداً، ويخضع للفحص والتمحيص، مثله مثل النظريات الأخرى المتعلقة بمنشأ الفيروس. فحتى الاعتقاد الشائع بأن الفيروس قفز من حيوان إلى إنسان في أحد الأسواق، لا تزيد حتى الآن عن كونها نظرية، ناهيك عما قاله المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الصينية من أن منشأ الفيروس، هو جنود أميركيون كانوا في زيارة للمدينة المنكوبة، وإن كان ليس من الواضح في ادعائه إذا ما كان ذلك عمداً أو عن غير قصد.
وتلقي نظرية المعمل تلك بالضوء على قضية امتلاك بعض معامل الأبحاث لعينات من فيروسات قاتلة ورهيبة، مثل فيروس الجدري الذي تم القضاء عليه تماماً في الطبيعة، ولكن لا زال هناك عينات منه في معملين، واحد في الولايات المتحدة والآخر في روسيا. وسيناريو هروب هذا الفيروس من أحد المعملين، أو غيره من الفيروسات التي تم تعديلها وراثيا للاستخدام كسلاح بيولوجي، سيشكل كارثة غير مسبوقة، قد تهدد بسقوط الضحايا بالملايين، كما كان العهد دائماً مع فيروس الجدري والذي يقدر أنه قتل 300 مليون شخص خلال القرن العشرين فقط“.
و ما ذكر يجعل اعتماد التدابير الوقائية من الأولويات و يجعل المنظومة الصحية ضمن الأولويات الاستراتيجية .
و في بلدنا نمتلك كفاءات علمية في الداخل و أخرى منتشرة في مختلف أنحاء العالم ، و يمكن إذا توفر المناخ الملائم أن نحقق معها ما يضمن لبلدنا المأمول .
محمد بن زيان