
في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية وتتشابك فيه التفاعلات الاجتماعية عبر الفضاء الافتراضي، لم يعد موقع فايسبوك مجرد وسيلة للتواصل والترفيه، بل تحول إلى مرآة تعكس سلوكيات الأفراد، ومختبر يكشف الميول والاتجاهات الخفية للمجتمع، بل وحتى ساحة تستغلها الشبكات الإجرامية. و للوقوف عند هذه الظاهرة بأبعادها الاجتماعية والأمنية والإعلامية، كان لـ ” الديوان ” هذا الحوار مع الدكتور كمال عمتوت، الذي يقدم من خلاله قراءة تحليلية حول مخاطر الإدمان الرقمي، انعكاساته على الفرد والمجتمع، واستشراف مستقبل الإعلام الرقمي في الجزائر والعالم .
الديوان: بداية، كيف تقدمون أنفسكم لقراء الجريدة؟
الدكتور كمال عمتوت: اسمي الكامل كمال عمتوت، أستاذ جامعي متحصل على شهادة الدكتوراه في علم اجتماع الانحراف والجريمة من جامعة طاهري محمد بولاية بشار. لدي العديد من المساهمات في مجال العلوم الاجتماعية، ولاسيما في دراسة القضايا المرتبطة بالاستعمار والقابلية للاستعمار، والطفل والجريمة، والبحث العلمي، والذكاء الاصطناعي وتطبيقاته. كما شاركت في العديد من المؤتمرات العلمية الوطنية والدولية، وقدمت إسهامات بارزة من خلال نشر أوراق بحثية في مجلات وطنية ودولية من صنفي “ب” و “ج”، وباللغتين العربية والإنجليزية. كما أملك رصيدا من المؤلفات التي تناولت قضايا اجتماعية مهمة، على غرار الأمن الفكري، وجرائم الأطفال، والتابوهات الاجتماعية في المجتمع الجزائري، وعلم اجتماع الجريمة في العصر الرقمي.
الديوان: في تقديركم، هل ما زال فايسبوك مجرد وسيلة للتواصل والترفيه؟
الدكتور كمال عمتوت: لم تعد منصة فايسبوك مجرد فضاء افتراضي للتواصل والترفيه، بل تحولت إلى مسرح تتجلى فيه أشكال متنوعة من الانحراف الاجتماعي والسلوكيات الإجرامية… فايسبوك، بوصفه أكبر هذه المنصات، يوفر للباحثين نافذة فريدة لفهم آليات الجريمة الرقمية وأنماط الانحراف المعاصر.
الديوان: شهدت وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى وجه الخصوص منصة فايسبوك، حضورا واسعا في حياتنا اليومية خلال السنوات الأخيرة. برأيكم، ما الأسباب التي تقف وراء هذا الارتباط الكبير الذي يصل أحيانا إلى حد الإدمان؟
الدكتور كمال عمتوت : الملاحظ في هذا الأمر أن منصات الاجتماعية مثل فايسبوك قد شكلت ظاهرة اجتماعية تستحق التأمل والتقصي السوسيولوجي، فنجاحها لا يعود فقط للتقدم التقني، بل لجذورها العميقة في السلوك البشري والتحولات المجتمعية، فقد أصبحت تلبي هذه المنصات الحاجة الإنسانية الأساسية للانتماء والتواصل، باعتبارها فضاء بديلا يعوض التفكك التدريجي للروابط التقليدية والمجتمعات المترابطة، كما تقدم كذلك آلية بناء الهوية وتقدير الذات عبر ” الإعجابات ” والمشاركات، مما يخلق حلقة من التعزيز الإيجابي المشروط تدفع المستخدم للعودة باستمرار بحثا عن تصديق، أما من منظور الاقتصاد الرمزي، أصبح النشاط على المنصة شكلا من رأس مال اجتماعي، يترجم إلى نفوذ وتأثير في العالم الافتراضي والواقعي أحيانا، علاوة وأن التصميم التقني للمنصة يعتمد على آلية ” المكافأة المتغيرة “، حيث لا يعرف المستخدم متى سيتلقى تفاعلا، مما يثير فضوله ويطلق الدوبامين في الدماغ، وهي آلية إدمانية شبيهة بالمقامرة، وهكذا، يتضافر العامل الاجتماعي (البحث عن الاعتراف) مع العامل التقني (التصميم الإدماني) لخلق ارتباط يشبه الإدمان، يجعل المنصة ليست أداة تواصل فحسب، بل فضاء وجوديا يعيد تشكيل علاقتنا بالآخر وبأنفسنا .
الديوان: إلى أي مدى يمكن أن يؤثر الإفراط في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي سلبا على شخصية الفرد وعلى النسيج الاجتماعي عموما؟
الدكتور كمال عمتوت : لا شك أن الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يعد تحديا يؤثر على تشكيل الهوية الفردية وتماسك النسيج الاجتماعي، ويكون ذلك وفق مستويين، فعلى مستوى الفرد، تعزز هذه المنصات ثقافة المقارنة المستمرة، حيث يقاس الفرد بمعايير غير واقعية للمثالية، مما يؤدي إلى تدني تقدير الذات، والقلق، وشعور مزمن بعدم الكفاية، كما تشجع على تقديم صورة مثالية (الذات المنقحة) بدلا من الذات الحقيقية، مما يضعف تكوين شخصية أصيلة ومتوازنة. أما على المستوى الجمعي، تعيد هذه الوسائل تشكيل طبيعة الروابط الاجتماعية، فتحل الروابط الافتراضية الضعيفة محل العلاقات العميقة وجها لوجه، مما يضعف الدعم الاجتماعي العاطفي الملموس، وتسهل آلية ” الفقاعة الترشيحية ” عزل الأفراد في مجتمعات افتراضية متجانسة فكريا، مما يعمق الانقسامات ويضعف الحوار المجتمعي البناء، والأكثر خطورة هو تحويل التفاعل البشري إلى سلعة رقمية، حيث تقدم القيمة الاجتماعية على أساس عدد الإعجابات والمشاركات، لا على القيم الإنسانية المشتركة، وبذلك تهدد بتحويل المجتمع من نسيج عضوي متجانس إلى مجموعة من الأفراد المعزولين، مما يستدعي وعيا جماعيا لاستعادة التوازن بين العالمين الافتراضي والواقعي.
الديوان: وكيف أصبح دور هذه المنصات في مجال الأمن ومكافحة الجريمة؟
الدكتور كمال عمتوت: لقد شهدنا تطورا لافتا في استخدام هذه المنصة من قبل الأجهزة الأمنية. هذا التحول يطرح تحديا مزدوجا، فمن جهة، نشهد ديمقراطية في الوصول للمعلومات تساعد في محاربة الجريمة، ومن جهة أخرى، نواجه مخاطر الخصوصية والمراقبة المفرطة. و السؤال المحوري يبقى : كيف نحقق التوازن بين الأمن الرقمي والحريات الشخصية؟ فالحل إذن يكمن في تطوير وعي اجتماعي رقمي، وإقرار تشريعات تضمن الاستخدام الأمثل لهذه الأدوات دون المساس بالحقوق الأساسية للمواطنين.
الديوان: هناك من يرى أن الاستخدام الرشيد لمواقع التواصل الاجتماعي من شأنه أن يعزز المعارف والمكاسب في مجالات متعددة، منها العلمية والثقافية والاجتماعية والدينية والرياضية وغيرها. هل تتفقون مع هذا الطرح؟ وكيف يمكن، في نظركم، ضبط بوصلة هذه المواقع واستثمار إيجابياتها على الوجه الأمثل؟
الدكتور كمال عمتوت : في نفس السياق، باعتبار وسائل التواصل الاجتماعي فضاء اجتماعيا هجينا يعكس التفاعل بين التقنية والمجتمع. فهي ليست مجرد أدوات اتصال، بل أصبحت بيئات ثقافية تشكل الوعي والعلاقات الاجتماعية، ويتفق التحليل الاجتماعي مع الرأي القائل بإمكانية تعزيزها للمعارف في مجالات متعددة، حيث توفر مساحات للحوار المعرفي العابر للحدود الجغرافية والثقافية، وتسهل تبادل الخبرات وتشكيل جماعات الاهتمام المشترك. لكن الضبط الأمثل لبوصلة هذه المواقع يتطلب وعيا جماعيا ومؤسسيا، فقد يحتاج المستخدم إلى تطوير ” الرقابة الذاتية ” والتفكير النقدي لتمييز المفيد من الضار، ومن جهة أخرى، تبرز ضرورة تطوير سياسات ثقافية وتعليمية تعزز ” التعليم الرقمي ” وتصنيع المحتوى الهادف، كما أن دور الأسرة والمدرسة أساسي في تنمية مهارات الاستخدام المتوازن، مما يحول هذه المنصات من مجرد وسائل ترفيه إلى أدوات حقيقية للتنمية المجتمعية والتماسك الاجتماعي.
الديوان: بات الإعلام الرقمي في السنوات الأخيرة يستقطب جمهورا واسعا من مختلف الشرائح الاجتماعية، حتى أصبح ينافس القنوات التلفزيونية والصحف الورقية من حيث نسب المتابعة. ما العوامل التي جعلت الإعلام الرقمي، في تقديركم، يفرض نفسه بقوة في المشهد الإعلامي المعاصر؟
الدكتور كمال عمتوت : في حقيقة الأمر أن الإعلام الرقمي يحظى بنسب متابعة هائلة، متحديا وسائل الإعلام التقليدية، وذلك بفضل عوامل عدة، وخاصة في تميزه بسرعته في نقل المعلومة، إذ يتفوق في تقديم المحتوى بشكل فوري ومستمر، مما يلبي حاجة الجمهور للمعارف الطارئة. والمستجدة كما أن فاعليته الفريدة تسمح للمتلقي بالمشاركة والتعليق ومشاركة المحتوى، محولة إياه من متلقٍ سلبي إلى طرف فاعل في صناعة الرأي، وقد عزز التنويع في المحتوى، من فيديو وصوت ونصوص، جاذبيته لمختلف الأذواق والشرائح، ولا ننسى أن سهولة الوصول عبر الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية جعلت المتابعة ممكنة في أي وقت ومكان، هذه العوامل مجتمعة شكّلت نقلة نوعية جعلت الإعلام الرقمي ركيزة أساسية في المشهد الإعلامي المعاصر.
الديوان: في ختام هذا الحوار، ما هي الرسالة التي تودون توجيهها للأولياء والشباب بخصوص الاستخدام الآمن والمسؤول لمواقع التواصل الاجتماعي، خاصة في ظل ما تحمله من مخاطر وانحرافات؟
الدكتور كمال عمتوت : في محصلة ذلك، أوجه رسالة إلى الأولياء والشباب مفادها أن مواقع التواصل الاجتماعي هي سلاح ذو حدين ، فهي فضاء للتواصل والمعرفة، لكنها أيضا بيئة محفوفة بالمخاطر والانحرافات، لذا، فإن المسؤولية تقع على عاتق الجميع، للأولياء دور محوري في توعية أبنائهم ومراقبة نشاطهم الرقمي دون تسلط، عبر بناء حوار مفتوح يعزز الثقة ويشرح المخاطر مثل التنمر والاحتيال والانجراف وراء الأفكار المتطرفة، وعلى الشباب أيضا أن يكونوا واعين ومتيقظين، فما ينشر لا يمحى، والخصوصية درع يجب الحفاظ عليه، كما أن التفكير النقدي هو أفضل وسيلة لمواجهة المحتوى الزائف والمضلل، لنستفيد من إيجابيات هذه المنصات في التعلم وبناء المهارات والتواصل الإيجابي، مع وضع حدود زمنية وأخلاقية لاستخدامها، وعليه، فلنجعل من العالم الافتراضي بيئة آمنة تثري واقعنا لا أن تعكره، لأن الأمان الرقمي ليس ترفا، بل ضرورة لسلامة الفرد والمجتمع.
حاوره : م. زرق العين