يكاد يجمع الخبراء و المتابعين من مختلف التخصصات و المواقع و الجنسيات حول أمر واحد و هو أن جائحة كورونا تمثل منعطفا في تاريخ العالم و سيكون لما بعدها تداعيات على وجهة الأمور ، ربما بما يتجاوز ما حدث عقب أحداث 11 سبتمبر .
انسدادالمنظومة
الرئيس ماكرون لمح في خطابه إلى اخفاق المنظومة المعتمدة عالميا ، و دعا إلى ما ينقذ الغرب الذي وجد نفسه أمام امتحان عسير يهدد مصير الاتحاد الأوربي خاصة في ظل أنانية بعض عواصمه و تخليه عن أخلاقية التضامن .و الرئيس ترامب الذي ظل يرفع شعار أمريكا أولا واجه باجتياح كورونا ما يهدد رهانه على عهدة ثانية كانت أسهمه ترتفع بالارتباط مع الاقتصاد الذي أدخلته كورونا الركود .و بعد حرب الاتهامات تواصل الرئيس الصيني مع نظيره الأمريكي ، و تحركت واشنطن لتحريك السعودية بغية الاسهام في دعم الاقتصاد العالمي المنهار ، و كورونا جاءت عقب كارثة انهيار أسعار النفط ، الانهيار المرتبط بمواجهة روسية ـ سعودية .جماعة العشرين عقدت لقاء و تحدث عبر تيلي كونفيروس الملك السعودي .مواقف الدول أظهرت انسداد المنظومة التي تحكمت في العالم و مصير الاتحاد الأوربي في الميزان ، كما أن جرحا عميقا أصاب كبرياء القوة الأمريكية ، و كان اللاعب المحوري الذي تمكن من كسب نقاط و أوراق في هذه المحنة هو اللاعب الصيني ..كما ظهرت كوبا ببعثاتها الطبية إلى أوربا كرسالة جديرة بالانتباه و الاعتبار .العالم يتزحزح و موقع القوة يتجه نحو الشرق الأقصى مع القوة العملاقة للصين ، و نحو قوى صاعدة كالهند و جنوب افريقيا ..كما أن روسيا تواصل بقيادة بوتين اللعب استراتيجيا و تاكتيتيكا .
انسداد مسار العولمة
عالم الاجتماع الكبير ادغار موران يلخص ما يجري قائلا :” تكشِف لنا هذه الأزمةُ أنّ العولمة هي ترابُطٌ وتشابكٌ فاقدٌ التّضامنَ. فممّا لا شكّ فيه أنّ مسار العولمة قد نتج عنه توحيدٌ تقنيّ– اقتصاديّ شمِل كوكبَ الأرض. بيد أنّ العولمة لم تُحرِز تقدّما في مجال التّفاهم بين الشّعوب. فمنذ بدء هذا المسار، في تسعينيات القرن المنصرم، سادت الأزماتُ الماليّة واشتعل فَتيلُ الحروب. وقد أفرَزت المخاطرُ المُحدِقة بالأرض– ونقصد البيئة، والأسلحة النّوويّة والاقتصاد غير المنظَّم– مصيرا مشتركا بين البشر. غير أنّ البشر لم يَعُوا بهذه المخاطر. وجاء هذا الفيروس ليجعل هذا المصيرَ واضحا جليّا بصورة فوريّة ومأساويَّة. فهل سَنَعي بهذا في نهاية المطاف؟ وها نحن نشهد اليوم – في غياب التّضامن الدّوليّ، والمؤسّسات المشتركة الهادفة إلى اتّخاذ تدابير تكون في حجم الوباء المُستَشري أُمَماً تنغلق على نفسها انغلاقا أنانيّا “.
و يضيف:” نعيش اليوم في مجتمع تدهورت فيه البنياتُ التّقليديّة المجسّمة للتّضامن. ويتمثّل أحدُ أكبر“إذا استمرّت هذه الأزمةُ، فإنّ الحدّ من عمليّات نقل البضائع على المستوى الدّوليّ، يجعلنا نتوقّع العودةَ إلى نظام توزيع الحصص التّموينيّة“المشاكل في استعادة أشكال التّضامن بين الأجوار والعمّال والمواطنين. ومع التحدّيّات الّتي نواجهها، أرى أنّ أشكال التّضامن ستقوى أكثر بين الأولياء والأطفال الّذين أصبحوا لا يذهبون إلى المدرسة، وستتمتّن بصورة أشدّ بين الأجوار. فضلا عن هذا، ستتأثّر إمكاناتُ الاستهلاك بالنّسبة إلينا جميعا. وعلينا أن نُحسِنَ توظيفَ هذه الحالة حتّى نُعيدَ النّظر في النّزعة الاستهلاكيّة، ونعني: الإدمانَ و“الاستهلاكَ المُخدِّر“، وتسمُّمَنا النّاجمَ عن سلع غير نافعة حقّاً، وحتّى نتخلّصَ من الكمّ لفائدة الكيف “.
هل هي ثورة الطبيعة؟
يربط البعض ما يحدث بانتقام الطبيعة من العبث المتمادي و اصرار القوى الكبرى على التعسف في استغلال الثروات و البحث عن منفعة اقتصادية منعزلة عن كل الاعتبارات .و هو ما جعل العالم على كف عفريت ..و لقد تم دق الناقوس مرارا و لكن أمريكا كقوة كبرى كانت تحبط كل القرارات .
تقول أستاذة إيكولوجيا في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية أليسار شعيب:
“لا يمكننا الجزم بأن الأوبئة مرتبطة دائماً بمشاكلنا البيئية المستجدة وبعصرنا الحالي. منذ بداية الزراعة وتدجين الحيوانات الأليفة في العصر الحجري الحديث الذي بدأ قبل 12 الف سنة، والإنسان معرض لللأوبئة بحكم احتكاكه القريب بالحيوانات. إذ انتقلت إليه، مثلاً، فيروسات الحصبة والجدري من البقر. لكن ما يمكننا جزمه هو أن أساليب عيشنا الحديث واستغلالنا المفرط لمواردنا الطبيعية ولهاثنا وراء الربح السريع وتراكم الثروات أدت بشكل نهائي إلى تفاقم إنتشار الأوبئة وصعوبة السيطرة عليها . لطالما حذر علماء البيئة من خطر القضاء على المساكن الطبيعية للحيوانات البرية مما يهدد التوازن البيئي ويتسبب بخلل كبير قد لا يتمكن الإنسان من التحكم بتبعاته. وأظهرت دراسات عدة أجريت في السنوات الأخيرة أن ميكروبات جديدة مسببة لمرض الملاريا بدأت بالتفشي منذ عام 2002 في ماليزيا وجنوب شرق أفريقيا. ربطت هذه الدراسات التفشي بقطع الغابات في هذه المناطق لأن اختفاء الأشجار يعزز ظهور نوع جديد من الحشرات الناقل لهذه الميكروبات. كما أظهرت أن فيروس ايبولا الذي تفشى بشكل كبير في قرى أفريقية عام 2013 كان أكثر انتشارا في مناطق أفريقيا الغربية والوسطى التي تعاني من أعلى نسبة قطع للغابات (لانشاء اراض زراعية أو مناطق سكنية أو تجارة الخشب). المخزون الطبيعي لفيروس ايبولا هو خفاش الليل الذي يعيش في الغابات، ويتعايش هذا الفيروس مع الخفاش من دون أن يسبب له أي أذى. وقد كان هذا الفيروس بعيداً عن الانسان لأن الخفافيش كانت بعيدة عنه أيضاً عندما كانت تسكن في الغابات. ولكن، بعد القضاء على مساكنها الطبيعية، اضطرت للجوء إلى الأشجار المثمرة الموجودة في المدن للبقاء على قيد الحياة، ما سبب تخالطها المباشر مع البشر ونقلها لهم ايبولا المميت “.
توقعات ما بعد كورونا:
عن توقعات الآتي يكتب ياسر عبد الحسين:” كشف فيروس «كورونا» عن أنّ عالم الدول المتقدمة، لم يكن متقدّماً على الأقل في إطار المواجهة الطبية للوباء. فالدول ذات الاقتصاد النيوليبرالي والسوق الحرّة، بدأت تتهاوى بسرعة مخيفة. بالتالي، تختلف هنا الأسلحة الحقيقية للمواجهة، عن سياقات الدول التقليدية ” و ” يمكن الإشارة إلى أنّ العالم يعيش عصر الانغلاق والانكفاء عن سياقات ومبادئ العولمة، مع إغلاق الحدود وتقييد حرية السفر، بينما كشف عن صعود تيارات الهوية بشكل بارز. ويمكن أن نأخذ مثالاً على ذلك، حالة أوروبا اليوم في ظلّ اعتماد بعض دولها سياسة صحية خاصة بها ومنفردة، لمحاربة فيروس «كورونا»، من دون اتخاذ سياسات مشتركة تحت مظلّة الاتحاد الأوروبي. وقد يرى البعض أنّ العولمة هشة بطبيعة الحال، بينما جاء الفيروس للقضاء على ما تبقى منها، وهي في طريقها إلى العناية المركزة “.و يقول الكاتب سمير العيطة :” أزمة تفشى فيروس كورونا (وباء كوفيد 19) ليست عابرة. وليس من المبالغة القول إنها تشكل قطيعة مع ما سبقها “.